وقفت طويلا أمام هذه الآيات وأعجبني فيها دقة التصوير وبلاغة المعنى فأحببت أن تشاركوني هذه الوقفة:
قال تعالى في سورة الإسراء آية (61-64): [b]( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طينا، قال أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا، قال اذهب فمن تبعك منهم فإن جنهم جزاؤكم جزاء موفورا، واستفزز من استعطت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا)[/b]
أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا إلا إبليس
ترى لمَ يا إبليس لم تسجد؟
قال: (أأسجد) قالها مستنكرا ومستعجبا (لمن خلقت طينا)
رفض إبليس السجود لآدم وحمله الكبر والحسد على ذلك ، واستكباره هذا يجعله ينظر إلى آدم وذريته من بعده نظرة الازدراء والدون، فكيف لمن خُلق من مارج من نار أن يسجد لمن خلق من طين!!!؟؟؟
(أرأيتك هذا الذي كرمت علي) عرفني وأخبرني عن هذا الذي كرمته علي لمَ كرمته علي وأنا خير منه؟؟!
ترى ماذا سيفعل إبليس لبني آدم؟
(لئن أخرتن إلى يوم القيامة) لئن أخرت مماتي وأبقيتني حيا
(لأحتنكن ذريته) لأستولين عليهم، لأضلنهم
أصل الاحتناك: وضع الراكب اللجام في حنك الفرس ليركبه ويُسيِّره
لنتأمل إلى التصوير القرآني لهذه الحرب
كأن بني آدم الفرس وإبليس فارسه وضع اللجام في حنك الفرس وركبه وأصبح يتحكم بحركاته يمينا ويسارا كأنه يقوده حيث يشاء في طريق الضلال ويستولي على تفكيره ويقود أفكاره بالوسوسة إنها صورة أليمة أن نكون محتَنَكِين ثم ممن من إبليس ؟!! ولماذا ؟ ليجلب إبليس ذرية آدم إلى مراده من الإفساد والإغواء بتسيير الفرس (بني آدم) على حب ما يريد راكبه (إبليس)
ترى هل كل ذرية آدم سيمتطيهم إبليس؟؟
(إلا قليلا) استثنى القليل لأن إبليس علم أنه يكون في ذرية آدم من لا يتسلط عليه
عندما طلب إبليس من الله أن يؤخره إلى يوم القيامة أجابه الله قائلا:
(اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا) اذهب أي اذهب لشأنك الذي اخترته امض في مخططك واستمر في عملك الذي نويته من الوسوسة والإضلال لبني آدم فمن يتبعك منهم فإن جهنم جزاءهم وعطاءهم الموفور والكثير، سوف يكون جزاء كل من يتبعك جزاء غير منقوص.
فهل انتهت الحرب عند هذا الحد؟
بالطبع لا ؛ لأن الحرب ضروس انظروا ماذا يحصل في أرض المعركة
(واستفزز من استطعت منهم بصوتك) حرك الفرس الذي استطعت ترويضه بسرعة ولا تتثاقل عن ذلك وازجره بصوتك العالي بالغناء والمزامير واللهو حرك من استطعت من بني آدم على معصية الله بطريقتك المعروفة (بصوتك) بالوسوسة .
(واجلب عليهم بخيلك ورجلك) واستعن بخيولك ورجالة الجن وبشياطين الإنس الذين أصبحوا ضمن جيشك استعن بهم في حربك هذه اسع سعيك وابلغ جهدك
(وشاركهم في الأموال والأولاد) شارك بني آدم في الأموال الحرام من الربا وأكل مال اليتيم وكل ما أخذ في غير حق، وشاركهم في الأولاد بأن تأمرهم بقتلهم أو جعلهم على غير طريق الإسلام، شاركهم في الأولاد عند عدم التسمية عند الجماع - فالجان ينطوي إذ ذاك على إحليله فيجامعه معه-، ورغبهم في القتال والقتل
(وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) عدهم الوعد الكاذب كطول الأمل وتسويف التوبة ومغفرة الذنوب بدونها ، وما وعودك تلك إلا غرورا لن تتحق تلك الوعود التي وعدتهم بها
إذن الحرب عدتها وعتادها توحي بشراستها وقوتها والحرب لا يُستثنى منها أحد
ترى من سيغلب في هذه الحرب ؟
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان)
هنا لاح في الأفق بريق أمل وتشريف تسكن النفس إليه وتتنفس الصعداء
(إن عبادي) بالتأكيد يا إبليس لن تكون أنت قائد الحرب فهناك فريق من بني آدم لا يحتنكه فريق قريبون من ربهم (عبادي) تشرفوا بقربهم من الله وخصهم بأنهم عباد أخلصوا دينهم لله قاموا على توحيد الله الخالص استحقوا بإخلاصهم عبوديتهم شرف القرب (عبادي)
(ليس لك عليهم سلطان) لا لن تملك زمام لجامهم ولن تملك ترويضهم وتيسيرهم كما تشاء لأنهم أخلصوا عبوديتهم لله وحده لا سبيل لك يا ابليس ولا قدرة لك على تخليط عقولهم فأنت ضعيف ولا تملك من حربك تلك إلا الوسوسة .
ترى بما استحقوا التشريف عباد الرحمن وكيف وصلوا إلى تلك المنزلة؟؟
(وكفى بربك وكيلا) صفتهم أنهم توكلوا على الله واستعاذوا به من الشيطان فكان خير وكيل لهم إذ أحاطهم من الشيطان وحفظهم منه
(وكيلا) حافظا لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان أو وكيلا يكلون أمورهم إليه فهو حافظهم بتوكلهم عليه.
المراجع: تفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، تفسير البحر المحيط لأبي حيان، بتصرف مني.