الرقية الشرعية: أحكامها ومذاهب الفقهاء فيها
الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشـمي
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومـن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون)(1).
(يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً)(2)
(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغـفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً)(3).
وبعــد: فإن المرض ابتلاء من الله وأجر للعبد عظيم، إن صبر واحتسب يكفر الله به خطاياه. قال صلوات الله وسلامه عليه: "ما من مرض أو وجـع
1- سورة آل عمران: 102
. 2- سورة النساء: 1
. 3- سورة الأحزاب: 70، 71 .
يصــيب المؤمـــن إلا حط اللــه ســـيئاته كما تحط الشجــرة ورقها" (4). ويرفـــع اللــه بالمرض درجـــة المؤمن، قال صلوات الله وسلامه عليه: "ما من مسلم يشاك شوكـــة فما فوقها، إلا رفــعه الله بها درجــة، أو حــط عــــــنه بها خطيئـة"(5). ويطهــر معــــه ذنوبه كما أخبر النبـــي صلى اللــه عليه وسلم "ما من مســــلم يصـــرع صرعــة من مرض إلا بعثــــه الله منها طاهـــراً"(6). ومن خــيرة المرض وفضله على الصَـبَّار المحتســـب أن يكتب للمــريض أجــــر ما كان يعمله من خير وبـــر وهو صحيــح. وهـــذا فـضل من اللـــه أن جعــل المرض مـصدر أجــر مستمـــر، وصــاحـبه لا يقــدم من جهـــده شــيئاً. قـــال صلوات اللــه وسلامه عــليه: "من كان له عمل يعمله من خير فشـغله عنه مرض، أو سفر، فـإنه يكتب له صـالح
4- أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المرض: باب شدة المرض ح(5647). ومسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ح (2571)، وأحمد في مسنده (1/441)، وانظر تحفة الأشراف ح(9191).
5- أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة: باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن ح(2572) والتزمذي في سننه: كتاب الجنائز: باب ما جاء في ثواب المريض ح(967)، وقال: حديث عائشة حديث حسن صحيح، وأحمد في مسنده (6/42). قال النووي: في هذه الأحاديث بشارة عظيمة للمسلمين، فإنه قلما ينفك الواحد منهم ساعة من شيء مؤذ، وفيه تكفير الخطايا بالأمراض والأسقام، ومصايب الدنيا، وهمومها؛ وإن قلت مَشقَّتها. وفيه رفع الدرجات بهذه الأمور، وزيادة الحسنات، وهذا هو الصحيح الذي عليه جماهير العلماء- انظر شرح النووي على مسلم (16/128).
6- حديث مسند أخرجه الطبراني في الكبير (7485). وفي هامش الطب النبوي للمقدسي.
ما كان يعمل، وهو صحيح مقيم"(7).
وهل هناك أفضل من أن يحقق مرض الصابر محبة الله عز وجل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله قوماً ابتلاهم، فمن صبر فله الصبر، ومن جزع فله الجزع"(8). فالمرض نعمة لأهل الإيمان، وليس تعذيباً- ولو كان كذلك ما ابتلى أنبياءه والصالحين.
عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاءً قال: "الأنبياء، ثم الصالحين، ثم الأمثل فالأمثل من الناس. يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في بلائه، وإن كان في دينه رقة خفف عنه، وما زال البلاء بالعبد حتى يمشي على ظهر الأرض ليس عليه خطيئة" (9).
وإذا كان هذا أجر المرض؛ وفضله لا يعني تمني المسلم المرض ففــضل الله وخيره وكرمه للمسلم في الصحة والنعمة أيضاً. والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. ويقول النبـي صلى اللـه
7- أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الجهاد والسير: باب يكتب للمسافر مثل ما كان يعمل في الإقامة ح(2996). وأبو داود في سننه: كتاب الجنائز: باب إذا كان الرجل يعمل عملاً صالحاً فشغله عنه مرض أو سفر ح(3091)، وأحمد في مسنده (4/410)
.8- حديث صحيح مضى تخريجه ص 10
.9- أخرجه الترمذي في سننه: كتاب الزهد: باب ما جاء في الصبر على البلاء ح(2405)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. وابن ماجه في سننه: كتاب الفتن: باب الصبر على البلاء ح (4023)، وأحمد في مسنده (1/172)، والحاكم في مستدركه (1/42)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي: على شرط مسلم. وأنظر صحيح سنن ابن ماجه للألباني ح(3249).
عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له؛ وإن أصابته ضراء صبر، فكـان خيراً له"(10).
هذا، وإن الاستشفاء مطلوب من المسلم، يبذل في سبيله الغالي والرخيص. ولا يعارض ذلك ما ذكر من أجر المرض لمن صبر. ففضل الله على الصحيح عظيم، له مثل أجر المريض أو يزيد- كما سبق. والاستشفاء مطلوب من سائر الأمراض عضـوية أو نفسية، ويسلك في سبيله أي الأدوية مادية أو معنوية. وإن الرقية وهي: ما يُقَرأ من الدعاء لطلب الشفاء بالقرآن وأسماء الله وصفاته وبالذكر؛ نوع من العلاج له أثر مادي من الأمراض العضوية، كما أن له أثرا في الجوانب المعنوية، والنفسية. وهذا معهود ومجرب لا يماري فيه عاقل.
ولما كانت الرقية مطبقة شرعية عقائدية- احتاجت إلى بيان ضوابطها وحدودها وألفاظها، حذراً من أن تكون وسيلة لضعاف النفوس، ومرضى القلوب، يبتزون بها الناس، ظلماً وبهتاناً ودجلاً، ويقع من ذلك شر عظــيم على الأفراد، والأسرة، والمجتمع. وهذا البحث معني ببيان الرقى الشرعـــية وضوابطها وألفاظها ومذاهب الفقهــاء فيها - لعل الحريص على دينه يجد فيه بغيته، ويهتدي إلى الصواب في التعامل مع مرضــاه على ما تبين من صحيح الطب النبوي.
10- أخرجه مسلم في صحيحه: كتاب الزهد: باب المؤمن أمره خير كله ح(2999)، وأحمد في مسنده (4/332). انظر فتح الباري لابن حجر (10/106): كتاب المرض. قال المنذري: النبي (صلى الله عليه وسلم) يبشر المؤمن بما يصيبه، ويخبره أن كل شيء أحاطه كسب منه ثواباً: فإن أمره الله بنعم فحمده نال أجراً، وإن أصابته سيئة فصبر نال ثواباً؛ فهو في الحالتين مكرم مثاب مؤجر- الترغيب والترهيب (4/278).
مذاهـــــــب الفقهـــــــاء:
اتفق الفقهاء: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة على جواز الاستشفاء والرقـية، لكنهم اختلفوا في التساوي بين الفعل والترك، أو الفضيلة، أو الكراهة.
المذهـــــــب الأول:
ذهب الحنفية والمالكية إلى الجواز، بمعنى الإباحة بين فعل الرقية أو تركها(11). ولا يشوش على هذا تعبير بعضهم بـ"لا بأس". فقد عبر بعض الحنفية كابن عابدين وابن أبى زيد القيرواني عن الجواز بلفظ "لا بأس بالمعاذات"(11) و"لا بأس بالاسترقاء والتعوذ"(12). والمراد الجواز. لكن من له قوة على الصبر فالمستحسن عدم الاسترقاء، وهذا لا ينفي الجواز. نبه على ذلك النفراوي من المالكية فقال: تعبير المصنف "بلا بأس" يقتضي أن الأحسن عدم الاسترقاء، وتسليم الأمر إلى الله(12). ويدل على هذا قوله صلـى الله عليه وسلم "يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب، وهم الذين لا يرقـــون ولا يســترقون وعلى ربهم يتوكــلون" (13).
ففي هذا ذم الاسـترقاء. وحديث أن جبريـل كان يرقي النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي مدح الاسترقاء، وإن فعله أحسن من تركه. ثم أجاب النفراوي بقوله: والجواب عن هذه المعارضة من وجهين: أحـدهما: أن الاسترقاء الذي يحسن تركه الاسترقاء بكلام الكفار أو الألفاظ المجهولة التي لا يعرف معناهــا كالألفـــاظ العجمــية. والاسـترقاء الحســــن ماكان بالآيات القرآنية، أو الأسماء والكلمات المعروفة المعاني.
11- انظر حاشية ابن عابدين (6/363)؛ 12-انظر الفواكه الدواني للنفراوي (2/368)؛13-الفواكه الدواني للنفراوي (2/369).
وثانيهما: أن الاسترقاء المستحسن تركه هو ما كان في حـق من له قـوة على الصبر على ضرر المرض، كما قيل للصديق رضي الله عنه: ندعو لك طبيباً، فقال: "الطبيب أمرضني". والمستحسن فعل الرقية في حق الضعيف(14).
المذهــــب الثاني:
ومذهب الحنابلة مباح لكن تركه أفضل(15). وجمهورهم على الاستحباب(16).
المذهــــب الثالث:
أن التداوي بالرقية مستحب. وهو مذهب الشافعية. قال النووي في منهاج الطالبين: "ويسن التداوي". وقال: "إنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلق. واختاره الوزير ابن المظفـر"(17). وعلى الاستحباب كثير من الحنابلة، كالقاضي أبي يعلي والبهوتي وابن الجوزي وابن عقيل والمقدسي وغيرهم. جاء في الآداب الشرعية: الاستحباب هو الصـواب، وهو قول الجمهور. وذكر في شرح مسلم أنه قول كثير من العلماء أو أكثرهم.
14- انظر الفواكه الدواني للنفراوي (2/369). وقد يعبر عن الجواز عند المالكية بقولهم "لا بأس": كقول الإمام مالك في باب الخلع "لا بأس بأن تفتدي المرأة من زوجها بأكبر مما أعطاها". فلا بأس: تعني الإجازة أيضاً. وعلى ذلك إذا أطلق المباح انصرف إلى الجواز الذي هو مستوى الطرفين أو المأذون فيه حيث لا يتعلق بفعله مدح ولا بتركه ذم وهو معنى: لا بأس أيضاً. انظر دليل السالك للمصطلحات والأسماء في فقه الإمام مالك (15) للدكتور حمدي عبد المنعم شلبي.
15- عَبَّر عبيد الله بن سلام عن هذا بأنه مذهب الكراهية في الاستشفاء، انظر كتاب فضائل القرآن ومعالمه وآدابه
.16-انظر منهاج الطالبين بشرح المحلي. وانظر حاشية قليوبي وعميرة (1/44)
17-انظر الآداب الشرعية (82). وصحيح مسلم.