كيف كان القرآن شفاء لأمراض الإنسان وقاية وعلاجاً
الأستاذ الدكتور عمر سليمان الأشقر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين، وبعد:
فإن الصحة والمرض حالتان تعتوران الإنسان. وقد عَرَّف عبد اللطيف البغدادي هاتين الحالتين بقوله: "الصحة هيئة بدنية تكون الأفعال معها سليمة، والمرض حالة مضادة للصحة"(80).
والإنسان يكون صحيحاً إذا كان على الحال الذي خلقه الله عليها في بدنه وروحه. فإذا خرج عن الحال الذي فطر الله العباد عليها اعتل بدنه واعتلت روحه، واحتاج إلى معالجة حتى يتعافى بعودته إلى الخلقة السوية.
وخير ما تعالج به الأمراض القرآن الكريم، وقد دل على أن القرآن شفاء نصوص من القرآن، قال الله تعالى:
(يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين)(81).
وقال:
(وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا)(82).
80- انظر الطب النبوي لابن القيم: (31-33). والطب النبوي لعبد اللطيف البغدادي ص 31-33
81- سورة يونس: آية 57
.82- سورة الإسراء: آية 82.
وقال تبارك وتعالى: (ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد)(83) .
كيف كان القرآن شفاء؟
وقد يسأل سائل عن أبعاد المعالجة بالقران، فيقول: هل كون القرآن شفاء على حقيقته؟ أم أن ذلك واقع على طريق المجاز؟ وهل يعالج أمراض القلوب والأرواح فحسب؟ أم يمتد العلاج به إلى أمراض الأبدان؟ وإذا كان العلاج ممتدا به إلى أمراض الأبدان فما وجه المعالجة به؟ وكيف يكون علاجا؟
والجواب :أن القرآن علاج باعتبارات متعددة:
أولاً : معالجته لأمراض النفوس والقلوب:
أما معالجة القرآن لأمراض النفـــوس والقلوب فإنه تفرد بذلك دون سواه، ومعالجة البشر بأفكارهم ونظرياتهم ومباحثهم لهذه الأمراض موهومة تدخل في باب الأوهام والخيالات في كثير من الأحيان. وقد يظن البشر أنهم يقدمون الدواء في هذه المجالات، وهم في الحقيقة يفسدون ويُمْرضون من حيث ظنوا الإصلاح.
إن إدراك حقيقة الروح وحقيقة الأمراض التي تُمْرضها وتُميتها، والأدوية التي تُصلحها وتجلب لها العافية ليس في طاقة البشر أن يعرفوه ويعلموه، فعلمهم في هذا المجال أقل من القليل. وفى ذلك يقول الحق تبارك وتعالى: (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا)(84).
83- سورة فصلت: آية 44
. 84- سورة الإسراء: آية 85.
إن البشر لا يعلمون حقيقة الروح، فكيف يعرفون طريقة معالجتها؟
إن الذي أنزل القرآن شفاءً لأرواحنا هو خالق هذه الأرواح ومبدعها، وهو العالم بما يصلحها ويفسدها.
يقول ابن القيم مبينا أن علاج الأرواح إنما هو للوحي السماوي المنزل على الرسل والأنبياء دون غيرهم: "فأما طب القلوب فمسلم إلى الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، ولا سبيل إلى حصوله إلا من جهتهم، وعلى أيديهم. فإن صلاح القلوب أن تكون عارفة بربها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأحكامه، وأن تكون مُؤْثرة لمرضاته ولمحابه، متجنبة لمناهيه ومساخطه، ولا صــحة لها ولا حياة ألبتة إلا بذلك، ولا سـبيل إلى تلقيه إلا من جهـة الرسل، وما نظن من حصول صحة القلب بدون اتباعهم فغلط ممن يظن ذلك. وإنما ذلك حياة نفسه البهيمية الشهوانية وصحتها وقوتها، وحياة قلبه وصحته وقوته عن ذلك بمعزل. ومن لم يميز بين هذا وهذا فليبك على حياة قلبه، فإنه من الأموات، وعلى نوره فإنه منغمس في بحار الظلمات"(85
وعملية إصلاح النفس الإنسانية أطلق عليها القرآن "تزكية النفس". وعملية إفساد هذه النفس سماها "بتدسية النفس" وأقسم الحق تبارك وتعالى أقساما سبعة في مطلع سورة الشمس على أن المفلح من زكى نفسه، والخائب الخاسر من دساها فقال:
(والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكَّاها، وقد خاب من دساها)(86).
وقال في موضع آخر.
85- انظر زاد المعاد لابن القيم (4/7)
.86- سورة الشمس: آية 1-10.
(قد أفلح من تزكى)(87).
وقال لموسى عندما أرسله إلى فرعون:
(إذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى)(88).
ولما كان القران هو طب القلوب وأدواءها، وبه تتحقق تزكية النفوس والأرواح. فإنه بمثابة الروح لأرواحنا، والنور لبصائرنا.
(وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدى به من نشاء من عبادنا)(89).
فأنت ترى أن الله وصف الوحي بوصفين؛ الأول: أنه روح، والثاني: أنه نور. وبالروح تكون الحياة، وبالنور تكشف الظلمات. ولذا فإن الله يحي بهذا القرآن من ماتت قلوبهم وعميت بصائرهم بالكفر والضلال.
(أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)(90).
وأمراض القلوب التي أنزل القرآن شفاء لها نوعان: أمراض شبهات تجعل الإنسان في حيرة وقلق وضياع، وأمراض شهوات، فأمراض الشبهات مذكورة في مثل قوله تعالى:
(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا)(91).
87- سورة الأعلى: آية 14
.88- سورة النازعات: آية 17-19
. 89- سورة الشورى: آية 52
. 90- سورة الأنعام: آية 122.
91- سورة البقرة: آية 10.
وأمراض الشهوات مذكورة في مثل قوله تعالى:
(فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض)(92).
وهذان النوعان من أمراض القلوب أصل فساد العبد وشقائه في معاشه ومعاده. وشفاؤه في معرفته لربه، واستقامته على طاعته، والبعد عما نهى عنه، وحذر منه.
وقد أطال شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم في الحديث عن أدواء القلوب وكيفية معالجتها، ولى في ذلك رسالة لطيفة ضمنتها كتابي الموسوم، "محاضرات إسلامية هادفة"، (ص127-146)، بعنوان: "منهج الإسلام في تزكية النفس".
ولا يفوتني هنا أن أبين أن أكثر أمراض النفوس إنما تأتي من الشيطان، والنفس الأمّارة بالسوء. فالشيطان يستعين على بلوغه غرضه من الإنسان بالنفس الأمّارة بالسوء. وليس من طريق للخلاص من الشيطان إلا بالالتجاء إلى الرحمن. وقد علَّمنا الله أن نلجأ إليه دائما، ونحتمي به من نزغات الشيطان:
(وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون)(93).
و(قل أعوذ برب الناس، ملك الناس، إله الناس، من شر الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس)(94).
92- سورة الأحزاب: آية 32.
93- سورة المؤمنون: آية 97-98
. 94- سورة الناس: الآيات من 1إلى 5.
هل شفاء القرآن قصر على أمراض القلوب:
عندما نرجع إلى شراح القرآن لكتاب الله تراهم يقصرون النصـوص المتحدثة عن كون القرآن شفاء على أمراض القلوب. وهى أمراض الكفر والنفاق وسوء الأخلاق. يقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى:
(قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور)(95).
"أي من الشبه والشكوك، وهو إزالة ما فيها من دنس"(96).
وقال في تفسيره لقوله تعالى:
(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (97)
يقول تعالى عن كتابه الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، إنه شفاء ورحمه للمؤمنين. أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق وشرك وزيغ وميل. فالقرآن يشفى من ذلك كله"(98). وإذا أنت دققت في النصوص المقررة لكون القرآن شفاء وجدتها تتحدث عن أمراض القلوب دون أمراض الأبدان.
فآية سورة يونس جعلته شفاء لما في الصدور، والذي تحويه الصدور هو القلوب كما قال تعالى:
(فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور)(99).