ثالثاً : حكم العلاج بالنُشرة المحرمة :
تـعـريـف الـنُـشـرة :
قال ابن السعادات : النُشرة ضرب من العلاج والرقية يعالج به من كان يظن أن به مساً من الجن ، سميت نُشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء ، أي يكشف ويزال .
وقال ابن الجوزي : النُشرة حل السحر عن المسحور ، ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر .
أنـواع الـنُـشـرة :
1) نشرة بالرقى والتعاويذ والدعوات المباحة ، فهذه جائزة ومشروعة .
2) نشرة محرمة ، وهي حل السحر بمثله ، أو العلاج بالسحر ، والاستعانة بالشياطين واستعمال الرقى الشركية .
بعد أن أجمع أهل العلم على جواز النُشرة الشرعية اختلفوا في حكم ذهاب المضطر المسحور والمعيون ونحوهما ، الذين لم يجدوا من يعالجهم مما بهم من أدواء على قولين ، فمنهم من أجاز الذهاب ، منهم سعيد بن المسيب ، ويُحمل كلامه على ما لا يعلم أنه سحر ، ومنهم من منع ، منهم الحسن البصري .
قال ابن القيم رحمه الله : " النُشرة حل السحر من المسحور ، وهي نوعان : حل بسحر مثله ، وهو الذي من عمل الشيطان ، وعليه يحمل قول الحسن ، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور .. والثاني النُشرة بالرقية ، والتعوذات ، وأدوية مباحة ، فهذا جائز " .
ومما جاء في صفة النُشرة الجائزة ما روى ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال : بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى ، تقرأ في إناء فيه ماء ، ثم يصب على رأس المسحور ، الآية التي في سورة يونس " ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصح عمل المفسدين " إلى قوله تعالى " ولو كره المجرمون " ، وقوله " فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون " إلى آخر الآيات الأربع ، وقوله " إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " .
وقال ابن بطال : في كتاب وهب بن منبه أن يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ، ثم يضربه بالماء ، ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ، ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به ، يذهب عنه كل ما به وهو جيد للرجل إذا حبس عن أهله .
وقال : ومن الرقى التي ترد العين ، ما ذكر عن أبي عبدالله التناحي أنه كان في بعض أسفاره للحج أو الغزو على ناقة فارهة ، وكان في الرفقة رجل عائن قلما نظر إلى شيء إلا أتلفه ، فقيل لأبي عبدالله : احفظ ناقتك من العائن ، فقال : ليس له إلى ناقتي سبيل ، فأخبر العائن بقوله ، فتحين غيبة أبي عبدالله فجاء إلى رحله فنظر إلى الناقة فاضطربت وسقطت ، فجاء أبو عبدالله فأخبر أن العائن قد عانها ، وهي كما ترى ، فقال : دلوني عليه ، فدُل ، فوقف عليه وقال : ( بسم الله ، حبس حابس ، وحجر يابس ، وشهاب قابس ، رددت عين العائن عليه وعلى أحب الناس إليه ، " فارجع البصر هل ترى من فطور ، ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير " ) فخرجت حدقتا العائن ، وقامت الناقة لا بأس بها .
روى ابن عبد البر بسنده إلى الأسود قال : سألت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن النُشرة ، فقالت : ما تصنعون بالنُشرة والفرات إلى جانبكم ، ينغمس فيه أحدكم سبع انغماسات إلى جانب الجرية .
وروي عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الرجل يأبق له العبد أيؤخذه ؟ فقال سعيد : قد وخذنا فما رد علينا شيء ، أورد علينا شيئاً .
وروي عن ابن جريج قال : سألت عطاء بن أبي رباح عن النُشرة ، فكره نشرة الأطباء ، وأما شيء تصنعه أنت فلا بأس .
وعن سعيد المسيب في الرجل يؤخذ عن امرأته فيلتمس من يداويه ، قال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع .
وقال أحمد : رخص فيه بعض الناس وما أدري ما هذا ؟
* نماذج لبعض العائنين والمعيونين :
العين ليست قاصرة على الحاسدين ، فقد يعين الرجل الصالح إذا أعجبه شيء ولم يبرك من حيث لا يشعر ، قد يعين نفسه ، أو ولده ، أو ماله ، أو غيرهم .
قال ابن القيم : " وقد يعين الرجل نفسه ، وقد يعين بغير إرادته " .
وقال القرطبي : " إن الرجل الصالح قد يكون عائناً ، وأن هذا ليس من باب الصلاح ولا من باب الفسق في شيء " .
ولكن أغلب ضرر العائنين يأتي من الحاسدين الحاقدين ، وإليك هذه النماذج من الصالحين وغيرهم :
1) عامر بين ربيعة عان سهل بن حُنيف حتى سقط إلى الأرض رضي الله عنهما ، وقد مر .
2) سعد بن أبي وقاص عانته امرأة عندما خرج يوماً وهو أمير الكوفة ، فنظرت إليه امرأة فقالت : إن أميركم هذا لأهضم الكشحين ، فرجع إلى منزله فوعك ، ثم إنه بلغه ما قالت ، فأرسل إليها ، فغسلت له أطرافها ثم اغتسل به فذهب ذلك عنه .. ( والكشح ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف ، وهو من لدن السرة إلى المتن وهو موقع السيف من المتقلد ، واهضم الكشحين أي دقيق الخصرين ) .
3) من العائنين المشهورين هشام بن عبد الملك الخليفة الأموي ، فقد عان سالم بن عبدالله بن عمر ، حكي المدائني عن الأصمعي قال : حج هشام بن عبد الملك فأتى المدينة ، فدخل عليه سالم بن عبدالله بن عمر ، فلما خرج من عنده قال هشام : ما رأيت أبن سبعين أحسن كدنة منه !! فلما صار سالم في منزله حُمّ ، فقال : أترون أن الأحول لقعني بعينه ؟ .. فما خرج هشام من المدينة حتى صلى عليه .
4) وذكر القاضي حسين من الشافعية أن نبياً من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام استكثر قومه ذات يوم فأمات الله تعالى منهم مائة ألف في ليلة واحدة ، فلما أصبح شكا إلى الله ذلك ، فقال الله تعالى له : إنك لما استكثرتهم عنتهم فهلا حصنتهم ؟
5) وقال الدميري في حياة الحيوان له : رأيت بخط بعض العلماء المتقدمين من المبرزين أنه كان بخرسان رجل عائن ، فجلس يوماً إلى جماعة فمر بهم قطار جمال ، فقال العائن من أي جمل تريدون أن أطعمكم من لحمه ؟ فأشاروا إلى جمل من أحسنها ، فنظر إليه العائن فوقع الجمل لساعته .
6) وروى ابن عبد البر بسنده إلى سحيم بن نوفل قال : كنا عند عبدالله نعرض المصاحف فجاءت جارية اعرابية إلى رجل منا فقالت : إن فلاناً قد لقع مهرك بعينه فهو يدور في فلك ، لا يأكل ولا يشرب ولا يبول ولا يروث ، فالتمس له راقياً ، فقال عبدالله : لا تلتمس له راقياً ، ولكن ائته فانفخ في منخره الأيمن أربعاً ، وفي الأيسر ثلاثاً ، وقل : لا بأس ، أذهب البأس رب الناس ، اشف أنت الشافي ، لا يكشف الضر إلا أنت ، فقام الرجل فانطلق ، فما رحنا حتى رجع فقال لعبدالله : الذي أمرتني به ، فما رحت حتى أكل وشرب وبال وراث ..
7) وقال ابن عبد البر : روينا عن الأصمعي أنه قال : رأيت رجلاً عيوناً ، سمع بقرة تحلب فأعجبه صوت شخبها ، فقال : أيتهن هذه ؟ قالوا : الفلانية ، لبقرة أخرى يورُّون عنها ، فهلكتا جميعاً ، المورّى بها والمروّى عنها .. وقال الأصمعي : وسمعته يقول : إذا رأيت الشيء يعجبني وجدت حرارة تخرج من عيني .
8) وقال الأصمعي : وكان عندنا رجلان يعينان الناس ، فمر أحدهما بحوض من حجارة ، فقال : تالله ما رأيت كاليوم قط ، فطار الحوض فرقتين ، فأخذه أهله فصبوه بالحديد ، فمر عليه ثانية ، فقال : وأبيك لعل ما أضررت أهلك فيك ، فتطاير أربع فرق .
9) قال : وأما الاخر فسمع صوت بول من وراء حائط ، فقال : إنه لبن الشخب ، فقالوا : إنه فلان ، ابنك .. فقال : وانقطاع ظهراه ، قالوا : إنه لا بأس عليه ، قال : لا يبول بعدها أبداً .. فما بال حتى مات .
* الحجر على من عُرف بالإصابة بالعين من مداخلة الناس :
ذهب أهل العلم في ذلك مذهبين :
1) يحجر عليه ويمنع من مداخلة الناس ، ويمنع من شهود الجمع والجماعات ، وينفق عليه من بيت المال إن كان فقيراً .
2) لا يحجر عليه .
قال القرطبي : " من عُرف بالإصابة بالعين منُع من مداخلة الناس دفعاً لضرره ، وقد قال بعض العلماء : يأمره الإمام بلزوم بيته ، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم به ، ويكف أذاه عن الناس ، وقيل إن ينفى ، وحديث مالك الذي ذكرناه يرد هذه الأقوال ، فإنه عليه السلام لم يأمر في عامر بحبس ولا بنفي ، بل قد يكون الرجل الصالح عائناً ، ولا يقدح فيه ولا يفسق به ، ومن قال يحبس ويؤمر بلزوم بيته ، فذلك احتياط ودفع ضرر ، والله أعلم " .
وقال ابن مفلح : " وللإمام حبس العائن ، ذكره في " الترغيب " وفي " الرعاية " من عُرف بأذى الناس حتى بعينه ولم يكف ، حُبس حتى يموت ، فظاهرة يجب أو يستحب لما فيه من المصلحة وكف الأذى ، ونفقته من بيت المال ، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحبسه ، وفي " الأحكام السلطانية " ( للوالي فعله ليدفع ضرره لا للقاضي ) .
قال القاضي عياض : " ينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس ، ويأمره بلزوم بيته ، ويرزقه إن كان فقيراً ، فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد ، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر والعلماء بعدم الاختلاط بالناس ، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يمر بتغريبها ، بحيث لا يتأذى بها أحد ..
قال أبو زكريا النووي : ( هذا صحيح متعين لا يعرف من غيره تصريح بخلافه ) .
من ثبت أنه قتل بعينه هل يقتاد منه ويقتص أم لا ؟
الراجح أنه لا قود عليه ولا دية ولا كفارة ، والله أعلم .
قال الدميري الشافعي : " العائن إذا اعترف أنه قتل غيره بالعين فلا قود عليه ولا ديه ولا كفارة ، وإن كانت العين حقاً ، لأنه لا يفضي إلى القتل غالباً ، ويندب للعائن أن يدعو له بالبركة " .
وأخيراً نسأل الله أن يحمينا ويحمي المسلمين من كل شر إنه ولي ذلك والقادر عليه
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم