بسم الله الرحمن الرحيم )
ومن منازل ( إياك نعبد وإياك نستعين ) منزلة ( الزهد )
قال الله تعالى : ( ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ ) " سورة النحل " 96 "
وقال تعالى : ( قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ) " سورة النساء : 77 "
والقرآن مملوء من التزهيد في الدنيا , والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها , وسرعة فنائها , والترغيب في الآخرة , والإخبار بشرفها ودوامها , فإذا أراد الله بعبد خيرا أقام في قلبه شاهدا يعين به حقيقة الدنيا والآخرة , ويؤثر منهما ما هو أولى بالإثار .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : الزهد ترك مالا ينفع في الآخرة , والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة .
وهذه العبارة أحسن ما قيل في الزهد والورع واجمعها .
وقال سفيان الثوري : الزهد في الدنيا قصر الأمل , ليس بأكل الغليظ , ولا لبس العباء .
وقال الأحنف : الزهد وجود الراحة في الخروج من المِلك .
وقال الجنيد : الزهد خلو القلب عما خلت منه اليد .
وقيل : هو عزوف القلب عن الدنيا بلا تكلف .
** **وقال الأمام أحمد بن حنبل : الزهد على ثلاث أوجه :
1 / ترك الحرام , وهو زهد العوام .
2 / ترك الفضول من الحلال , وهو زهد الخواص .
3 / ترك ما يشغل عن الله , وهو زهد العارفين .
ومن أحسن ما قيل في الزهد : كلام الحسن أو غيره : ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال , ولا إضاعة المال , ولكن أن تكون بما في يد لله أوثق منك بما في يدك , وأن تكون في ثوب المصيبة ـ إذا أصبت بها ـ أرغب منك فيها لولا لم تصبك .
** ** والذي أجمع عليه العارفون : أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا , وأخذه في منازل الآخرة .
ومتعلقة ستة أشياء : لا يستحق العبد إسم الزهد حتى يزهد فيها . وهي ( المال , الصور , الرياسة ـ الناس , النفس , وكل ما دون الله )
وليس المراد رفضها من الملك , فقد كان سليمان وداود ـ عليهما السلام ـ من أزهد أهل زمانهم , ولهم من المال والملك والناس ما لهم , وكان لنبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أزهد البشر على الإطلاق.
إن لله عبادا فطنا *** تركوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا *** إنها ليست لحي وطنا
جعلوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفنا
** ** وقد أختلف الناس في الزهد , هل هو ممكن في هذه الأزمنة أم لا ؟؟ !!
فقال أبو حفص : الزهد لا يكون إلا في الحلال . ولا حلال في الدنيا فلا زهد .
وخالفه الناس في هذا .
وقال يوسف بن أسباط : لو بلغني إن رجلا بلغ في الزهد منزلة أبي ذر وأبي الدرداء وسليمان والمقداد , وأشباههم من الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ما قلت له زاهد . لأن الزهد لا يكون إلا في الحلال المحض . والحلال المحض لا يوجد في زماننا هذا وأما الحرام : فإن ارتكبته عذبك الله .
** ** ثم إختلف هؤلاء في متعلق الزهد .
فقالت طائفة : الزهد إنما هو في الحلال . لأن ترك الحرام فريضة .
وقالت فرقة : بل الزهد لا يكون إلا في الحرام . وأما حلال فنعمة من الله على عباده , والله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده . فشكره على نعمه , والاستعانة بها على طاعته , واتخاذها طريقا إلى جنته , أفضل من الزهد فيها , والتخلي عنها , ومجانبة أسبابها .
والتحقيق : أنها إن شغلته عن الله , فالزهد فيها أفضل , وإن لم تشغله عن الله , بل كان شاكرا لله فيها , فحاله أفضل . والزهد فيها تجريد القلب عن التعلق بها , والطمأنينة إليها . والله أعلم .
** ** والزهد على ثلاث درجات :
1 / الزهد في الشبهة : فهو ترك ما يشتبه على العبد : هل هو حلال , أو حرام ؟؟
كما في حديث النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم قال : ( الحلال بين . والحرام بين . وبين ذلك أمور متشبهات . لا يعلمهنَّ كثير من الناس . فمن اتقى الشبهات اتق الحرام , ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام , كالراعي يرعى حول الحمى . يوشك أن يرتع فيه . ألا ولكل ملك حمى . ألا وإن حمى الله محارمه . ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد . وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد . ألا وهي القلب )
فالشبهات برزخ بين الحلال والحرام , وقد جعل الله بين كل متباينين برزخ , كما جعل الموت وما بعده برزخا بين الدنيا والآخرة . وجعل المعاصي برزخا بين الإيمان والكفر . وجعل الأعراف برزخا بين الجنة والنار .
وكما قيل : قيل لبعضهم ما الذي زهدك في الدنيا ؟؟ !!
قال : قلت وفائها , وكثرة جفائها , وخسة شركائها .
إذا لم أترك الماء إتقاء *** تركت لكثرة الشركاء فيه
إذا وقع الذباب على الطعام *** رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء *** إذا كان الكلاب يلغن فيه
2 / الزهد في الفضول : وهو ما زاد على الُمسْكة والبلاغ من القوت , باغتنام التفرغ إلى عمارة الوقت . وحَسْم الجأش , والتحلي بحلية الأنبياء والصديقين .
الفضول / ما يفضل على قدر الحاجة .
الُمسْكة / ما يمسك النفس عن القوت والشراب .
البلاغ / هو البلغه من ذلك الذي يتبلغ به المسافر في منازل السفر فيزهد فيما وراء ذلك اغتناما لتفرغه لعمارة وقته .
عمارة الوقت / الانشغال في جميع أنائه بما يقرب إلى الله , أو يعين على ذلك من مآكل أو مشرب وغيرها .
حسم الجأش / فهو قطع اضطراب القلب المتعلق بأسباب الدنيا , رغبة ورهبة وحبا وبغضا وسعيا .
التحلي بحلية الأنبياء والصديقين / فإنهم أهل الزهد حقا .
3 / الزهد في الزهد : وهو بثلاثة أشياء :
ـ استحقار ما زهدت فيه , واستواء الحالات فيه عندك , والذهاب عن شهود الاكتساب , ناظرا إلى وادي الحقائق .
المعنى / وهو أن يشاهد تفرد الله عز وجل بالعطاء والمنع , فلا يرى إنه ترك شيئا ولا أخذ شيئا , بل الله وحده هو المعطي المانع , فما أخذه فهو مجرى لعطاء الله إياه , كمجرى الماء في النهر , وما تركه لله , فالله هو الذي منعه منه , فيذهب بمشاهدة الفعال وحده عن شهود كسبه وتركه , فإذا نظر إلى الأشياء بعين الجمع , وسلك في وادي الحقيقة , غاب عن شهود اكتسابه .
إذا زهدتني في الهوى خشية الردى *** جلت لي عن وجه يزهد في الزهد
المرجع / مدارج السالكين بين منازل " إياك نعبد وإياك نستعين "
تحقيق / محمد المعتصم بالله البغدادي .